أحكــام تجويد القرآن

آخر المواضيع

samedi 5 juillet 2014

08:10

خصائص القلب


خصائص القلب

يعتبر القلب من وجهة نظر القرآن وسيلة للمعرفة أيضا. وأن القسم الأكبر من نداءات القرآن تخاطب قلب الإنسان. تلك النداءات التي لا طاقة لسماعها إلا بواسطة أذن القلب. ولذلك، فإن القرآن يؤكد كثيرا بالمحافظة على هذه الوسيلة والعمل على تكاملها.
نلتقي في القرآن كثيرا بأمور مثل تزكية النفس وصفاء القلب:
((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا)) (الشمس / 9).
و((كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) (المطففين / 14).
وحول إنارة القلب يقول: (( ... إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا..)) (الأنفال/29)
و((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)) (العنكبوت / 69)
وفي مقابل ذلك، فإن الأعمال القبيحة تسود روح الإنسان وتسلب منه الاتجاهات الطاهرة النقية، وقد تكرر هذا الحديث في القرآن. يقول عن لسان المؤمنين:
((رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا)) (آل عمران/8)،
وفي وصف المسيئين يقول: ((كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) (المطففين/14)
((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ..)) (الصف/5)
ويتحدث القرآن عن قساوة القلوب وتختمها:
((خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)) (البقرة/7)،
و((جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ......)) (الأنعام/25)
و((....كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ)) (الأعراف/101)
و((... فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)) (الحديد/16)
كل هذه التأكيدات تبين أن القرآن يريد جوا روحيا، ومعنوية عالية للإنسان. ويوجب على كل فرد أن يحافظ على سلامة ونقاء هذا الجو.
وبالإضافة إلى ذلك، ففي الجو الاجتماعي المريض، وحيث تصبح أكثر جهود الإنسان لنظافة البيئة عقيمة غير موفقة، يؤكد القرآن أن يستغل البشر كل طاقاته في سيل تصفية وتزكية بيئته الاجتماعية. يصرح القرآن بأن ذلك الإيمان والعشق والمعرفة، والتوجهات السامية، وتأثيرات القرآن، وقبول نصائحه، كل ذلك يرتبط بابتعاد الإنسان والمجتمع الإنساني عن الدنايا، والرذائل والأهواء النفسية والشهوات. يشير التأريخ البشري أن القوى الحاكمة، عندما أرادت السيطرة على مجتمع ما واستثماره، تسعى لإفساد روح المجتمع، ولهذا الغرض تهيئ وسائل الشهوة للناس، وتحرضهم على الشهوات.
والنموذج الذي يدعو إلى الاعتبار من هذا الأسلوب القذر، الفاجعة التي حدثت للمسلمين في أسبانيا المسلمة، التي كانت تعد من مواطن النهضة، ومن أكثر الدول الأوروبية حضارة وتقدما، ولأجل إخراج أسبانيا من أيدي المسلمين، بدأ المسيحيون يعملون على إفساد نفسيات وأخلاق الشباب المسلمين. وضعوا ما أمكنهم من وسائل اللهو واللعب والشهوة في اختيار المسلمين، وتقدموا في هذا المجال بحيث خدعوا الأمراء ورؤساء الحكومة ولطخوهم بالفجور. وهكذا استطاعوا القضاء على عزيمة المسلمين وقوتهم وإرادتهم وشجاعتهم وإيمانهم وصفاء نفوسهم، وبدلوهم إلى أشخاص أذلاء ضعفاء فاسدين، يتبعون الشهوات ويشربون الخمور ويرتكبون الفواحش والمنكرات. وواضح جدا أن التغلب على مثل هؤلاء الأشخاص لم يكن أمرا صعبا.
لقد انتقم المسيحيون من حكومة المسلمين التي مضى عليها 300 -400 عاما، انتقاما يخجل التاريخ من تذكره وتذكر تلك الجرائم. أولئك المسيحيون الذين يسلمون الطرف الأيسر من وجوههم إلى من لطم على يمينها - حسب تعاليم السيد المسيح - أجروا بحرا من دماء المسلمين في الأندلس، وبيضوا - بذلك - وجه جنكيز (المغولي)، وطبيعي أن فشل المسلمين كان نتيجة هممهم المنحطة وفساد نفوسهم، وجزاء عدم اتباعهم للقرآن وتعاليمه.
وفي زماننا أيضا، أينما وضع الاستعمار رجله، يستند على ذلك الموضوع الذي حذر منه القرآن، أي أنه يسعى ليفسد القلوب، فإذا فسد القلب لا يستطيع العقل أن يعمل شيئا، بل، يصبح نفسه قيدا أكبر في أيدي وأرجل الإنسان. ولذلك نرى أن المستعمرين والمستثمرين لا يخشون من افتتاح المدارس والجامعات، بل، ويقدمون بأنفسهم على تأسيسها، ولكنهم يسعون من طرف آخر لإفساد قلوب ونفوس الطلاب والتلاميذ بكل طاقاتهم. أنهم يدركون تماما هذه الحقيقة، وهي أن المريض في قلبه وروحه، لا يستطيع أن يعمل شيئا، ويتقبل كل ذلة واستثمار واسارة.
يهتم القرآن كثيرا بنقاء وعلو روح المجتمع، حيث يقول في الآية الشريفة: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ...)) (المائدة/2)، ابحثوا أولا: عن كل عمل خير، وابتعدوا عن كل سوء ورذالة، وثانيا: اعملوا معا وبصورة اجتماعية ولا تعملوا منفردين.
وبالنسبة إلى القلب، اذكر بعض النقاط على لسان الرسول (ص) والأئمة الأطهار عليهم السلام، ليكون ختاما حسنا لهذا الموضوع. مكتوب في كتب السيرة أن شخصا حضر عند رسول الله (ص) وقال: أن لي أسئلة أريد أن أعرضها عليكم، فسأله الرسول، هل يريد أن يسمع أجوبة أم يرغب في طرح الأسئلة فقط. فأجاب أنه يريد الجواب.
فقال النبي (ص) (ما معناه): جئت تسأل عن البر والإحسان والإثم والعدوان؟ أجاب: نعم، فجمع النبي (ص) ثلاثة من أصابعه ووضعها على صدر الرجل براحة قائلا: "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون." ثم أضاف (ما معناه): لقد خلق القلب بحيث يرتبط مع الحسنات ويرتاح معها، ولكنه يضطرب وينزجر من السيئات والقبائح، تماما مثل بدن الإنسان، فإذا ورده شيء لا يتجانس معه، يغير نظامه وهكذا روح الإنسان تتعرض للاختلال والاضطراب بواسطة الأعمال السيئة. إن ما يسمى عندنا بعذاب الضمير، ناشئ عن عدم تجانس الروح مع المفاسد والسيئات والأثام. يشير الرسول (ص) إلى هذه النقطة، وهي أن الإنسان الذي يبحث عن الحقيقة، ويخلص نفسه لمعرفة الحقيقة، لا يمكن لقلبه - في هذه الحالة - أن يخونه وسوف يهديه إلى مسير الهداية المستقيم. والإنسان أساس ما دام يبحث صادقا عن الحق والحقيقة الخالصة المحضة. يرد الرسول على من سأله عن البر: "استفت قلبك"، أي انك لو كنت تريد البر حقيقة، فإن ما يطمئن قلبك به ويسكن ضميرك له هو البر، ولكن إذا كنت ترغب شيئا، غير أن قلبك لم يطمئن له، فتيقن أنه هو الإثم.
وفي مكان آخر يسأل الرسول (ص) عن معنى الإيمان؟ فيجيب (ما معناه): المؤمن هو الذي إذا ارتكب عملا سيئا تعرض للندم وعدم الراحة، وإذا ارتكب عملا صالحا سر وفرح.
عند عبد الله بن القاسم عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: "إذا تخلى المؤمن من الدنيا، سما ووجد حلاوة حب الله، وكان عند أهل الدنيا كأنه قد خولط، وإنما خالط القوم. حلاوة حب الله، فلم يشتغلوا بغيره" أي أن المؤمن إذا زهد في الدنيا، يسمو ويرتفع ويحس حلاوة محبة الله، ويتصور أهل الدنيا أنه قد جن، في حين أن حلاوة حب الله جعلته في غنى عنهم، وشغله حب الله عن غيره.
قال (الرواي) وسمعته ( الإمام الصادق ) يقول: "إن القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتى يسمو" ( أصول الكافي: 2/130)
عن اسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: "أن رسول الله (ص) صلى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرا لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه. فقال له رسول الله (ص): 'كي <كيف؟؟> أصبحت يا فلان؟' قال: 'أصبحت يا رسول الله موقنا.' فعجب رسول الله من قوله وقال (ص): 'إن لكل يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك؟' فقال: 'إن يقيني يا رسول الله، هو الذي أحزنني وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون، على الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون، وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي،' فقال رسول الله (ص) لأصحابه: 'هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان'، ثم قال له:'إلزم ما أنت عليه.' فقال الشاب: 'ادع الله لي يا رسول الله أن أزرق الشهادة معك، فدعا له رسول الله (ص) فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي، فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر." (أصول الكافي (كتاب الإيمان والكفر ): 2/53).
يقول القرآن بأن صفاء القلب يوصل الإنسان إلى مقام يقول عنه أمير المؤمنين (ع): "لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا." إن القرآن بتعاليمه يريد أن يربي أناسا، مسلحين بسلاح العلم والعقل، ويستفيدون من سلاح القلب أيضا، ويستخدمون هذين السلاحين في أحسن أساليبه وأسمى كيفياته في طريق الحق. وإن أئمتنا وتلامذتهم الصالحين المؤمنين نماذج حية واضحة لهؤلاء الأناس.
08:10

نظرة القرآن عن القلب وتعريفه

أظن أنه لا داعي للتوضيح، بأن الغرض من القلب في اصطلاح العرفاء والأدباء ليس ذلك العضو اللحمي الموجود في الجانب الأيسر من البدن، ويجري الدم كالمضخة في العروق، فمثلا في تعبير القرآن: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ...)) (ق / 37)، أو في التعبير العرفاني اللطيف لحافظ (الشاعر):
"لقد نفر قلبي، وغافل أنا المسكين، ماذا قد حتى بهذا الصيد التائه الحيوان."
واضح أن المقصود من القلب (في هذين المثالين)، حقيقة سامية ممتازة، تختلف تماما عن هذا العضو الموجود في البدن، وهكذا عندما يذكر القرآن مرضى القلوب: ((فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا)) (البقرة / 10)، فإن معالجة هذا المرض، خارجة عن طاقة طبيب أمراض القلب، وإذا وجد طبيب يتمكن من معالجة هذه الأمراض، فلا شك أنه طبيب متخصص في الأمراض الروحية.
إذن ما هو المقصود من القلب؟ للإجابة على هذا السؤال يجب البحث في حقيقة وجود الإنسان. فالإنسان في الوقت الذي هو موجود واحد، إلا أن له مئات بل وآلاف الأبعاد الوجودية. "أنا" الإنسانية عبارة عن مجموعة كبيرة من الأفكار، والآمال، والخوف، والحب، و... وأنها بمثابة الأنهار والجداول، التي تتجمع في مركز واحد، وأن هذا المركز بنفسه بحر عميق، بحيث ما استطاع - إلى الآن - أي إنسان أن يدعي أنه اطلع على أعماق هذا البحر.
فالفلاسفة والعرفاء وعلماء النفس، ساهم كل إلى حد ما في السباحة في أغوار هذا البحر، ووفق كل منهم إلى كشف بعض أسراره، ولربما كان العرفاء أكثر حظا من الآخرين في هذا المجال.
وما يسميه القرآن بالقلب، عبارة عن حقيقة هذا البحر، وإن ما نسميه بالروح الظاهرية، عبارة عن الأنهار والجداول التي تتصل بهذا البحر. وحتى العقل بنفسه أحد هذه الأنهار التي تتصل بهذا البحر.
عندما يذكر القرآن الوحي، لم يقل شيئا عن العقل، بل أن علاقته ترتبط مع قلب الرسول (ص)، ومعنى هذا الكلام أن القرآن، لم يرد على الرسول بقوة العقل وبالاستدلال العقلي، بل، كان هذا قلب الرسول (ص)، حيث ارتقى إلى حالة لا يمكن لنا تصورها، وفي تلك الحالة حصل على قابلية أدراك ومشاهدة تلك الحقائق المتعالية، وها هي آيات سورة النجم وسورة التكوير توضح كيفية هذا الارتباط إلى حد ما، نقرأ في سورة النجم: ((وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى، ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأي)) : يقول القرآن ذلك، ليبين أن مستوى هذه المسائل فوق حيز عمل العقل الحديث هنا عن المشاهدة والاعتلاء. ونقرأ في سورة التكوير: ((أنه لقول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، مطاع ثم أمين، وما صاحبكم بمجنون، ولقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين، وما هو بقول شيطان رجيم، فأين تذهبون، أن هو إلا ذكر للعالمين)).
08:08

فطرة القرآن و دلائل حجية العقل


فطرة القرآن عن العقل

ذكرنا في الفصل السابق موجزا عن ألسِنَة القرآن، وذكرنا أن القرآن استعان بلسانين لإبلاغ رسالته وهما: الاستدلال المنطقي والإحساس. ولكل هذين اللسانين مخاطب خاص به، فمخاطب الأول العقل، ومخاطب الثاني القلب. وفي هذا الفصل نريد أن نبحث عن وجهة نظر القرآن حول العقل.
يجب أن نرى أن العقل سند من وجهة نظر القرآن أم لا؟ وبتعبير علماء الفقه والأصول هل العقل حجة أم لا؟ وهذا يعني أنه إذا حصلنا على حكم واقعي صحيح من العقل، هل يجب على البشر أن يحترم هذا الحكم ويعمل وفقا له أم لا؟ وإذا عمل بناء عليه، وارتكب أخطاء في بعض الموارد، هل يعذره الله أم يعاقبه عليه؟ ولو لم يعمل هل يجازيه الله على أساس أنه لم يتبع حكم عقله أم لا؟
إن موضوع حجية العقل من وجهة نظر الإسلام ثابت في مقامه‎، ولم يتردد علماء الإسلام من الابتداء إلى الآن - باستثناء قليل منهم - في سندية العقل، واعتبروه أحد المنابع الأربعة (الأصلية) في الفقه.
1. الدعوة إلى التعقل من قبل القرآن
بما أننا نبحث حول القرآن، علينا أن نستخرج دلائل حجية العقل من القرآن نفسه. لقد صادق القرآن من جهات مختلفة - وأؤكد خاصة على الجهات المختلفة على حجية العقل. وقد أشير إلى مورد واحد فقط من ستين إلى سبعين آية من القرآن إلى هذه المسألة وهي: إننا عرضنا هذا الموضوع لتعقلوا (ويتدبروا) فيه.
وعلى سبيل المثال اذكر نموذجا، لإحدى التعابير العجيبة للقرآن، يقول القرآن: ((إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ)) (الأنفال/22)، وأوضح أن غرض القرآن من الصم والبكم، ليس الصم والبكم العضوي، بل، الغرض منهما هم الأشخاص الذين لا يريدون أن يستمعوا الحقيقة، أو أنهم يسمعونها ولا يعترفون بألسنتهم. فالأذن التي تعجز عن سماع الحقائق وتستعد فقط لسماع المهملات والأراجيف أن هذه الأذن صماء من وجهة نظر القرآن. واللسان الذي يستخدم فقط في بث الأراجيف، يعتبر لسانا أبكما حسب رأي القرآن. "لا يعقلون" هم الذين لا ينتفعون من أفكارهم، يعتبر القرآن مثل هؤلاء الأشخاص - الذين لا يحق أن يطلق عليهم اسم "الإنسان" بالحيوانات ويخاطبهم بالبهائم.
وفي آية أخرى ‎، يبحث ضمن عرض مسألة توحيدية، حول التوحيد الأفعالي والتوحيد الفاعلي، بقوله: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ)) (يونس/100)، وبعد عرض هذه المسألة الغامضة، التي لا يستطيع كل عقل أن يدركها ويتحملها، وأنها تهز الإنسان حقيقة، تقول الآية: ((وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ)) (تتمة نفس الآية السابقة).
- في هاتين الآيتين اللتين ذكرتهما بعنوان المثال، يدعو القرآن إلى التعقل بالدلالة المطابقية كما في اصطلاح المنطقيين. وهناك آيات كثيرة أخرى يصادق القرآن على حجية العقل فيها بالدلالة الإلتزامية (إذا دل وجود أم على أمر آخر، تطلق عليه أسم الدلالة. وللدلالة - الدلالة المطابقية: أي أن يدل اللفظ على تماما معناه، مثل أن نقول: سيارة ونقصد جميع أجزائها.
- الدلالة التضمنية: أي أن يدل اللفظ على جزء من معناه، مثل أن نقول: هنا توجد السيارة، ونفهم منها أن ماكنة السيارة موجودة أيضا.
- الدلالة الإلتزامية: حيث يدل اللفظ فيها على موضوع غير معناه (الظاهري) مثل: أن نسمع اسم (حاتم) ويخطر على بالنا الجود والسخاء.
وبعبارة أخرى: يقول أقوالا لا يمكن أبدا قبولها، إلا بعد قبول حجية العقل مثلا يطلب من الخصم إستدلالا عقليا: ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ... )) (البقرة/111) يريد أن يوضح بالدلالة الالتزامية هذه الحقيقة، وهي أن العقل حجة وسند، أو أنه يرتب قياسا منطقيا لإثبات وحدة واجب الوجود، بقوله: ((لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)) (الأنبياء/22) هنا يرتب القرآن قضية شرطية، يستثني فيها المقدم ولا يذكر التالي.
وقع كل هذا التأكيد على العقل، يريد القرآن أن يبطل ادعاء بعض الأديان، التي تقول بأن الأيمان أجنبي عن العقل، ولا بد لمن يريد الإيمان أن يعطل فكره، ويشغل قلبه فقط لكي ينفذ فيه نور الله.
2. الاستفادة من نظام العلة والمعلول
الدليل الآخر الذي يثبت أن القرآن يعتقد بأصالة العقل، هو أنه يذكر المسائل في علاقاتها العلية والمعلولية. إن علاقة العلة والمعلول وأصل العلية أساس للتفكرات العقلية، والقرآن يحترمها ويستعملها. وبالرغم من أن القرآن يتكلم باسم الله، والله هو الخالق لنظام العلة والمعلول، وبالطبع فإن الحديث يدور حول ما وراء الطبيعة، ويعتبر نظام العلة العلية ما دونها، بالرغم من كل ذلك لا ينسى القرآن هذا الموضوع، وهو أن يذكر شيئا عن نظام السبب والمسبب في العالم، ويعتبر الحوادث والوقائع مقهورة لهذا النظام.
وعلى سبيل المثال لا حظوا هذه الآية التي تقول: ((...إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) (الرعد/11). يريد أن يقول بأنه : لا شك أن كل المصائر بإرادة الله، ولكن الله لم يفرض المصير على البشر من ما وراء اختيار البشر وإرادتهم وأعمالهم، ولا يعمل عملا عبثا، بل إن للمصائر نظاما أيضا، وأن الله لا يغير مصير أي مجتمع عبثا، وبدون وجه، إلا أن يغيروا بأنفسهم فيما يرتبط بهم، مثل الأنظمة الأخلاقية والاجتماعية وكل ما يتعلق بواجباتهم الفردية.
ومن طرف آخر يرغب القرآن المسلمين بمطالعة أحوال وأخبار الأمم السالفة، لكي يعتبروا منها. وطبيعي أنه لو كانت قصص الأقوام والأمم والأنظمة على أساس عبث وكانت مصادفة، وإذا كانت المصائر تفرض من الأعلى إلى الأسفل، فلم يكن هناك معنى للمطالعة وأخذ العبرة.
يريد القرآن بهذا التأكيد أن يذكر، بأن هناك أنظمة موحدة، تحكم مصائر الأمم، وبهذا الترتيب لو تشابهت ظروف مجتمع ما مع ظروف مجتمع آخر، فإن مصير ذلك المجتمع يكون ي <في؟؟> انتظار المجتمع الآخر.
يقول في آية أخرى: ((فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ ..... يَسْمَعُونَ بِهَا ... )) (الحج/45_46). إن قبول الأنظمة بالدلالة الإلتزامية، في كل هذه المواضيع، يؤيد نظام العلية وقبول العلاقة العلية يعني قبول حجية العقل.
3. فلسفة الأحكام
من الدلائل الأخرى لحجية العقل من وجهة نظر القرآن، هو أن القرآن يذكر فلسفة للأحكام والقوانين، ويعني هذا الأمر: أن الحكم الصادر معلول لهذه المصلحة. يقول علماء الأصول: بأن المصالح والمفاسد، تقع في مجموعة علل الأحكام، مثلا يقول القرآن في آية: ((أَقِيمُوا الصَّلاَةَ...))، وفي آية أخرى يذكر فلسفتها: ((الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ...)) (العنكبوت/45). يذكر الأثر الروحي للصلاة، وأنها كيف ترفع الإنسان، ويسبب هذا الاعتلاء ينزجر الإنسان وينصرف عن الفواحش والآثام.
وعندما يذكر القرآن الصوم ويأمر به، يتبع ذلك بقوله: ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة/183)، وهكذا في سائر الأحكام، مثل الزكاة والجهاد و...، حيث يوضح في كل منها من الناحيتين الفردية والاجتماعية.
وبهذا الترتيب: فإن القرآن يمنح الأحكام السماوية جانبا دنيويا وارضيا، بالرغم من أنها ما ورائية (ما وراء الطبيعة)، ويطلب من الإنسان أن يتدبر فيها ليتضح له واقع الأمر، ولا يتصور أن هذه الأحكام مجرد مجموعة من رموز تفوق فكر الإنسان.
4. النضال مع انحرافات العقل
والدليل الآخر الذي يدل على أصالة العقل لدى القرآن - وأوضح من الدلائل السابقة - هو نضال القرآن مع أعداء العقل. لتوضيح هذا الموضوع لا بد من ذكر مقدمة:
يتعرض فكر الإنسان وعقله إلى الخطأ في كثير من الموارد. هذا الموضوع شائع ورائج عندنا جميعا، ولا ينحصر ذلك بالعقل، بل أن الحواس والأحاسيس ترتكب الخطأ أيضا، فمثلا ذكروا عشرات الأخطاء لحاسة البصر. وبالنسبة للعقل، ففي كثير من الأحيان يرتب الإنسان إستدلالا، ويحصل على نتيجة بناء عليه، وبعد ذلك يرى أحيانا أن الاستدلال كان خطأ من الأساس.
وهنا يطرح هذا السؤال نفسه: هل يجب تعطيل القوة الفكرية بسبب بعض الأعمال الخاطئة للعقل؟
وفي جواب هذا السؤال: كان السوفسطائيون يقولون بعدم جواز الاعتماد على العقل، وإن الاستدلال أساسا على عبث.
وفي هذا المجال: رد الفلاسفة على أهل السفسطة ردودا قوية، ومن ضمنها أن سائر الحواس أيضا تخطئ مثل العقل، ولكن أحدا لم يحكم بعدم الاستفادة منها. وبما أن ترك العقل غير ممكن، لذلك اضطر المتفكرون أن يعزموا على إيجاد حل لسد طرق الخطأ.
وفي البحث حول هذا الموضوع، لاحظوا أن كل استدلال ينقسم إلى قسمين: المادة والصورة، تماما مثل بناء استخدم فيه مواد البناء، كالإسمنت والحديد والجص (المادة) وأتخذ في النهاية شكلا خاصا (الصورة)، ولكي يكون البناء محكما جيدا من كل النواحي، لا بد من استخدام مواد مناسبة في بنائه، ولابد أن تكون خارطته صحيحة دون نقص. وفي الاستدلال أيضا لا بد أن تكون مادته وصورته صحيحتين.
وللبحث والتحقيق حول صورة الاستدلال وجد المنطق الأرسطي أو المنطق الصوري. وكان واجب المنطق الصوري أن يعين صحة أو عدم صحة صورة الاستدلال، وأن يساعد العقل كي لا يتعرض للخطأ في صورة الاستدلال (من الأخطاء التي تعرض لها العلم منذ عدة قرون، وأصبح منشأ فهم خاطيء للكثير هو تصور البعض بأن وظيفة منطق أرسطو، هي تعيين صحة أو عدم صحة مادة الإستدلال أيضا، وبما أن منطق أرسطو لم يستطع ذلك حكموا بعدم فائدة اللجوء إليه. ومع الأسف، فإن هذا الخطأ يتكرر كثيرا في عصرنا أيضا، ولا شك أن هذا الأمر دليل على أن هؤلاء، ليس لهم معرفة صحيحة عن المنطق الأرسطي ولم يفهموه.
وإذا أردنا أن نستفيد من نفس مثال المبنى، فعلينا أن نقول بأن وظيفة منطق أرسطو في تعيين صحة الإستدلال، تشبه تماما الشاقول في تعيين استقامة الجدار. بالإستعانة بالشاقول لا يمكن معرفة مواد البناء المستخدمة في الجدران هل أنها من نوع ممتاز أم لا؟ فمنطق أرسطو الذي تكامل أخيرا بواسطة سائر العلماء وأصبح غنيا جدا يحكم فقط في صورة الإستدلال، وأما بالنسبة لمادة الإستدلال، فإنه ساكت نفيا وإثباتا، ولا يستطيع أن يقول شيئا.
ولكن الأمر الهام هو عدم كفاية المنطق الصوري في تضمين صحة الاستدلال، يستطيع هذا المنطق تضمين جهة واحدة فقط، ولحصول الاطمئنان في صحة مادة الاستدلال، علينا أن نستخدم المنطق المادي أيضا. أي أننا نحتاج إلى معيار نقيس بمعونته كيفية المواد الفكرية. حاول علماء مثل "بيكن" و"دكارت" أن يؤسسوا منطقا لمادة الاستدلال، يشبه المنطق الذي وضعه أرسطو لصورة الاستدلال. واستطاعوا أن يعينوا بعض المعايير في هذا المجال إلى حد ما، لو أنها لم تكن مثل منطق أرسطو من الناحية الكلية، ولكنها استطاعت أن تساعد الإنسان - إلى حد ما - لمنعه من الخطأ في الاستدلال غير إنكم ربما تعجبتم إذا علمتم أن القرآن عرض أمورا لمنع الخطأ في الاستدلال لها فضل التقدم وتقدم الفضل على تحقيقات أمثال "دكارت".
08:07

التعرف على اللغة والمخاطبون في القرآن


التعرف على لغة القرآن

الموضوع الآخر هو التعرف على لغة القرآن وتلاوته. يتصور البعض أن الغرض من تلاوة القرآن، ينحصر في قراءة القرآن لأجل الثواب، دون أن يدرك شيئا من معانيه. وهؤلاء يقرؤون القرآن باستمرار، ولكن، إذا سئلوا مرة واحدة: إنكم هل تعرفون معنى ما تقرؤون؟ يعجزون في الإجابة. إن قراءة القرآن من هذه الناحية، وهي أنها مقدمة لإدراك معاني القرآن، ضرورية وحسنة، ولكن ليس فقط لأجل اكتساب الثواب.
وهناك أيضا خصائص لإدراك معاني القرآن لابد من ملاحظتها. إن ما يلزم حصوله للقارئ - وهو يريد الاستفادة من كثير من الكتب - هو مجموعة الأفكار الجديدة التي ليس لها وجود قبل ذلك في الذهن. وأن الذي يعمل ويتحرك هنا هو العقل، وقوة التفكير لدى القارئ ليس غير.
وبالنسبة للقرآن، فلا ريب بضرورة مطالعته بهدف دراسته وتعلمه، يصرح القرآن في هذا المجال بقوله: ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) (ص - 29).
إحدى مسؤوليات القرآن هي التعليم والتذكير، ومن هذه الجهة يخاطب القرآن عقل الإنسان، ويتحدث معه بالاستدلال والمنطق، غير أن للقرآن لغة أخرى، والمخاطب فيها ليس العقل، بل المخاطب هو القلب، وهذه اللغة الثانية تسمى: "الإحساس". وإن الذي يريد أن يتعرف على القرآن ويأنس به عليه أن يتعرف على هاتين اللغتين ويستفيد منهما معا، وأن تفكيك هاتين اللغتين يؤدي إلى بروز الخطأ والاشتباه ويسبب الضرر والخسران.
إن ما نسميه بالقلب هو عبارة عن شعور عظيم وعميق جدا في باطن الإنسان، ويسمونه أحيانا إحساس الوجود، أي إحساس رابطة الإنسان مع الوجود المطلق. فالذي يعرف لغة القلب ويخاطب الإنسان بها، يحرك الإنسان من أعماق وجوده، وعندئذ لا يبقى الفكر الإنساني تحت التأثير فحسب، بل ويتأثر كل وجوده. وربما استطعنا أن نضرب الموسيقى مثلا، كنموذج عن لغة الإحساس، فأن الأقسام المختلفة للموسيقى تشترك في جهة واحدة، وهي علامتها المختلفة للموسيقى تشترك في جهة واحدة، وهي علامتها مع الاحساسات الإنسانية. تهيج الموسيقى روح الإنسان وتغرقها في عالم خاص من الإحساس، وبالطبع، فإن ضروب الهيجانات والأحاسيس تختلف مع اختلاف أنواع الموسيقى، فربما ارتبط أحد أنواع الموسيقى مع الشعور بالفتوة والشجاعة، فيتحدث بهذه اللغة مع الإنسان.
لقد رأيتم الأناشيد والمعزوفات العسكرية، تنشد وتعزف في ميادين القتال، ونرى أحيانا مدى تأثير هذه الأناشيد وقوتها، بحيث تجعل الجندي الذي لا يخرج من خندقه خوف الأعداء تجعله يتقدم إلى الأمام بكل الدفاع ويحارب الأعداء رغم الهجوم الثقيل للعدو. وهناك نوع آخر من الموسيقى يرتبط مع الشهوة (والشعور الجنسي) فيعرض الإنسان إلى الخمول والانقياد نحو الشهوات، ويدعوه ليستسلم للفساد.
وقد لوحظ أن تأثير الموسيقى كبير في هذا المجال، وربما لم يستطع أي شيء آخر أن يؤثر إلى هذا الحد، في القضاء على جدران العفة والأخلاق، وبالنسبة إلى سائر الغرائز و الأحاسيس أيضا، عندما يقال شيء بلسان هذه الأحاسيس - بواسطة لغة الموسيقى أو بأي وسيلة أخرى- فإنه يمكن أن يوضع تحت المراقبة والنظارة.
إن الشعور الديني والفطرة الإلهية من أسمى الغرائز والأحاسيس لدى كل إنسان، وإن علاقة القرآن مع هذا الإحساس الشريف علاقة أسمى وأعلى1.
وبمناسبة الشعور المعنوي للبشر، هناك حديث لطيف إلى "إقبال" يقول فيه:
لا يوجد في هذا القول لغز ولا سر وهو أن الدعاء بمثابة وسيلة إشراقية نفسيه، عمل حيوي عادي، بواسطته تكتشف الجزيرة الصغيرة لشخصية مكانها في قطعة أكبر من العالم.
القرآن بنفسه يوصينا أن نقرأه بصوت حسن لطيف. وبهذا النداء السماوي يتحدث القرآن مع الفطرة الإلهية للإنسان ويسخرها (كان الأئمة (ع) يقرؤون القرآن بتلك اللهفة، التي ما إن يسمعهم المارة حتى يضطرون إلى الوقوف، والاستماع والتأثير والبكاء)
القرآن عندما يصف نفسه يتحدث بلسانين: فتارة يعرف نفسه بأنه كتاب التفكر والمنطق والاستدلال، وتارة أخرى بأنه كتاب الإحساس والعشق. وبعبارة أخرى فالقرآن ليس إذا للعقل والفكر فحسب، بل هو غذاء للروح أيضا.
يؤكد القرآن كثيرا على الموسيقى الخاصة به. الموسيقى التي لها تأثير أكثر من كل موسيقى أخرى، في إثارة الأحاسيس العميقة والمتعالية للإنسان.
يأمر القرآن المؤمنين بان يقضوا بعض أوقات الليل بتلاوة القرآن، وأن يرتلوا القرآن في صلواتهم عندما يتوجهون إلى الله، وفي خطاب للرسول يقول:
((يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً)) (المزمل - 3).
الترتيل (الترتيل: قراءة القرآن بحيث تخرج الكلمات من الفم بسهولة واستقامة ( مفردات الراغب) يعني: قراءة القرآن، بحيث لا تكون سرعة خروج الكلمات كبيرة، فلا تفهم الكلمات، ولا تكون متقطعة فتنفصم علاقاتها، يقول: قراءة القرآن بتأن في الوقت الذي تلاحظ في الوقت الذي تلاحظ محتو الآيات بدقة)
وفي الآية الأخيرة لتلك السورة يدعونا أن لا ننسى العبادة، في حال من الأحوال اليومية، وحتى في الأوقات التي نحتاج لنوم أكثر، مثل أوقات الجهاد أو الأعمال التجارية اليومية (قال تعالى: ((علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا...)) سورة المزمل، الآية 20)
الشيء الوحيد الذي كان سببا للنشاط واكتساب القوة الروحية والحصول على الخلوص وصفاء الباطن بين المسلمين، هو موسيقى القرآن. فالنداء السماوي للقرآن، أوجد في مدة قصيرة من المتوحشين (الجاهلين)، في شبه الجزيرة العربية شبعا مؤمنا مستقيما، استطاعوا أن يحاربوا أكبر القوى الموجودة في ذلك العصر ويقضوا عليها.
فالمسلمون لم يتخذوا القرآن كتاب درس وتعليم فحسب، بل، كانوا ينظرون إليه بمثابة غذاء للروح ومنبع لاكتساب القوة وازدياد الإيمان. فكانوا يقرؤون القرآن بكل إخلاص في الليل (يشير الإمام السجاد (ع) إلى هذه النقطة بقوله في دعاء ختم القرآن: "واجعل القرآن لنا في ظلم الليالي مؤنسا"، ويناجون ربهم تضرعا وخفية، وفي الصباح يهاجمون الأعداء كالأسود البواسل، والقرآن ينتظر مثل ذلك منهم، يقول مخاطبا النبي (ص):
((فَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)) (الفرقان - 52)
قف في وجوههم وجاهدهم بسلاح القرآن واطمئن بالنصر. وقصة حياة رسول الله (ص) توضح صدق هذه الحقيقة: أنه يقوم وحيدا ودون أي ناصر، في حين يحمل القرآن في يده، ولكن هذا القرآن يصبح كل شيء له، يجهز له الجيوش ويعد له الأسلحة والتجهيزات الحربية، وأخيرا فإنه يدعو العدو إلى الاستسلام والخضوع أمامه. يدعو الأعداء ليستسلموا أمام رسول الله (ص)، وبهذا يصادق على الوعد الإلهي (وفي زماننا أيضا، تحقق هذا الوعد الإلهي الحق مرة أخرى، وجاء رجل من سلالة رسول الله (الإمام الخميني) مستندا إلى القرآن والأيمان كجده العظيم، وهزم جيش الكفر والباطل أكبر هزيمة).
عندما يعتبر القرآن لغته لغة القلب، فإن غرض من هذا القلب هو الذي ينسجم مع آيات الله ويتصفى ويثور. تختلف أيضا عن لغة الأنغام والأناشيد العسكرية، التي تعزف في الجيش لتحيي فيهم الحماسة البطولية. أنها تلك اللغة التي تصنع من البدويين العرب مجاهدين قيل في حقهم: "حملوا بصائرهم على أسيافهم." أولئك الذين وضعوا أفكارهم النيرة ومعارفهم ومعنوياتهم على سيوفهم، ويستخدمون سيوفهم في طريق هذه الأفكار والعقائد. إنهم لم يهتموا بمصالحهم الشخصية وأمورهم الفردية. وبالرغم من أنهم لم يكونوا معصومين، بل ويخطئون أيضا، إلا أنهم المصاديق الحقيقية للقائمين في الليل، والصائمين في النهار (قائم الليل وصائم النهار)، كانوا في علاقة مستمرة مع أعماق الوجود، تقضي لياليهم في العبادة وأيامهم في الجهاد (يصف أمير المؤمنين (ع) المتقين في خطبة تعرف باسم المتقين "خطبة 193 من نهج البلاغة"، وبعد أن يذكر أقوالهم ومعاملاتهم، يشرح أحوالهم في الليل ويقول: "أما الليل فصافون أقدامهم تالين لإجزاء القرآن يرتلونها ترتيلا، يحزنون به أنفسهم ويستشرون به دواء دائهم، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طعما، وتطلعت نفوسهم إليها شوقا، وظنوا أنها نصب أعينهم، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم..."
يؤكد القرآن كثيرا على هذه النقطة التي تعتبر من خصائصه، وهي أنه كتاب القلب والروح، كتاب يثير النفوس ويسيل الدموع ويهز القلوب، ويعتبر القرآن هذه الميزة صادقة حتى بالنسبة لأهل الكتاب. يصف مجموعة منهم بأنهم إذا تلي عليهم القرآن تحصل لهم حالة خضوع وخشوع، ويقولون أنهم آمنوا بما في الكتاب، وأنه حق كله، يقولون ذلك وتزداد حالتهم خشوعا باستمرار.
ويؤكد في آية أخرى أن المسيحيين من أهل الكتاب، أقرب إلى المسلمين من اليهود والمشركين، كما في تعالى: ((لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى)) (المائدة/82). ثم يصف القرآن جماعة من المسيحيين، الذين آمنوا بعد أن سمعوا القرآن، بقوله: ((وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)) (المائدة/83). وفي مكان آخر، وعندما يتحدث عن المؤمنين، يقول في وصفهم: ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ))(الزمر/23). في هذه الآيات وفي آيات أخرى كثيرة ( ((إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)) (مريم - 58)، والآيات الأولى من سورة الصف ) يوضح القرآن أنه ليس كتابا علميا وتحليليا محضا، بل إنه في الوقت الذي يستخدم الاستدلال المنطقي يتحدث مع إحساس الإنسان وذوقه ولطائف روحه ويؤثر عليه.
من النقاط الأخرى التي لا بد أن تستنبط من القرآن، في البحث حول المعرفة التحليلية للقرآن، هي تعيين المخاطبين في القرآن.
وردت كثيرا في القرآن تعابير مثل: ((.. هدى للمتقين))، ((.. هدى وبشرى للمؤمنين))، ((ولينذر من كان حيا...))، هنا يمكن طرح هذا الإشكال، وهو أن الهداية لا تلزم للمتقين، لأنهم أنفسهم متقون.
ومن جانب آخر نرى القرآن هكذا يعرف نفسه:
((إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ)) (ص - 87)، (وهذه الآية من الآيات العجيبة في القرآن عندما نزلت الآية، كان النبي (ص) في مكة، وكان يتحدث مع أهالي إحدى القرى. كان عجيبا للناس أن يروا رجلا وحيدا يقول بكل طمأنته أنكم سوف تسمعون نبأ هذه الآية فيها بعد. سوف تسمعون قريبا ماذا يصنع هذا الكتاب مع العالم خلال فترة قصيرة )، وفي آية أخرى يخاطب الله رسوله قائلا: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) (الأنبياء - 107)
وسوف نذكر شرحا مفصلا عن هذا الموضوع في مبحث: التأريخ في القرآن. إلا أنه لا بد من القول هنا بإيجاز: في الآيات التي يخاطب القرآن جميع أبناء العلام، يريد - في الواقع - أن يقول بأن القرآن لا يختص بقوم وجماعة خاصة. كل من يتوجه نحو القرآن يحصل على النجاة.
وأما في الآيات التي يتحدث فيها عن أنه كتاب هداية للمؤمنين والمتقين، يريد أن يوضح هذه النقطة، وهي أنه من الذي يسير نحو القرآن في النهاية؟ ومن هم الذين يبتعدون عنه؟ لا يذكر القرآن عن شعب خاص وقبيلة معينة، على أساس أنهم هم المعتقدون به والتابعون له، ولا يقول أن القرآن يعتبر كتاب شعب خاص. القرآن خلافا لسائر المبادئ لم يهتم بمصالح طبقة خاصة، ولم يقل مثلا أنه جاء لتأمين مصالح طبقة ما، ولم يقل أيضا أن هدفه الوحيد هو مساندة العمال أو الدفاع عن حقوق الفلاحين.
يؤكد القرآن عندما يتحدث عن نفسه: أنه كتاب لبسط العدالة، يقول عن الأنبياء: ((وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) (الحديد - 25)، يريد القرآن القسط والعدل لكل المجتمع البشري، وليس لقوم أو طبقة أو قبيلة خاصة. ولكي يجذب الناس إلى نفسه لم يشر إلى العصبيات القومية مثل النازية. وخلافا لمبادئ أخرى كالماركسية مثلا، لا يستند على مصالحهم ومنافعهم الشخصية، ليثيرهم عن هذا الطريق، لأنه في هذه الحالة لا يستهدف العدل والحق لإتباعه. بل يستهدف وصوله إلى منافعهم وطلباتهم الشخصية.
وكما أن القرآن يعتقد بأصالة الوجدان العقلي للإنسان، فإنه يعتقد له أيضا أصالة وجدانية وفطرية، وعلى أساس فطرة طلب الحق والعدل يدعوهم إلى الحركة والثورة، ولهذا فإن رسالته لا تنحصر بطبقة العمال أو الفلاحين أو المحرومين أو المستضعفين. يخاطب القرآن الظالمين والمظلومين بأن يتبعوا الحق، يبلغ موسى (ع) رسالته إلى بني إسرائيل، وإلى فرعون أيضا، ويدعوهم جميعا إلى الإيمان بالله والسير في رسالته ودعوته على رؤساء قريش، في الوقت الذي إثارة الأفراد ضد أنفسهم ورجوعهم عن مسيرة الضلال وهي: إن رجوع وإنابة المترفين والمتنعمين أصعب بكثير من رجوع المحرومين والمظلومين.
الفريق الثاني يتحركون في مسير العدالة باقتضاء طباعهم. وأما الفريق الأول فعليه أن يمتنع عن مصالحه الشخصية والاجتماعية ويدوس برجليه على ميوله وأهوائه. يقول القرآن بأن أتباعه هم الذين طهرت نفوسهم وزكت أرواحهم، وهؤلاء اتبعوا القرآن على أساس مطالبة الحق والعدل، التي هي في فطرة كل إنسان، ولم يتبعوا ما تقتضيه مصالحهم وميولهم المادية والزخارف الدنيوية.
08:04

كيف يعرف القرآن نفسه


المعرفة التحليلية للقرآن

في هذا الفصل، نريد البحث في مضامين القرآن، وفي الحقيقة لو أردنا التعرض لمواضيع القرآن واحداً واحداً لكلفنا أطنانا من الورق. لذلك نعرض الكليات في البداية ثم نذكر بعض الجزئيات.
لقد بحث القرآن مسائل كثيرة، وتعرض لبعضها بشيء من التفصيل وبحث البعض الآخر بحثا بإيجاز. ومن المسائل التي وردت في القرآن، مسألة العالم وخالق العالم. يجب أن نلاحظ تعريف القرآن لذات الله، هل أنه تعريف فلسفي أم عرفاني؟ هل جاء هذا التعريف كما ورد في سائر الكتب الدينية مثل التوراة والإنجيل أم أنه يشبه ما في المبادئ الهندية؟ أم أن للقرآن أساسا أسلوب خاص وطريقة مستقلة في معرفة الله؟
الموضوع الآخر والمعروض في القرآن هو موضوع العالم. يجب أن نلاحظ نظرة القرآن حول العالم؟ هل يرى العالم والخلقة عبثاً ولعباً، أم أنه يرى العالم طبق نظام صحيح؟ هل يرى العالم على أساس مجموعة من السنن والقواعد أم يحسبه عبثا ودون قواعد، وكأنه لا يوجب أي شيء شرطا لشيء آخر؟
ومن المسائل العامة الواردة في القرآن، مسألة الإنسان، يجب علينا أن نحلل رأي القرآن بالنسبة للإنسان. هل يتحدث القرآن عن الإنسان مع حسن نية أم أن له نظرة سيئة تجاه الإنسان؟ هل يحقر الإنسان أم يعتبر أن له عزة وكرامة؟
المسألة الأخرى هي مسألة للمجتمع البشري هل يرى القرآن للمجتمع الإنساني أصالة وشخصية أم أنه يعد للفرد أصالة فقط؟ هل للمجتمع في نظر القرآن حياة وموت وارتقاء وانحطاط؟ أم أن هذه الصفات تعتبر صادقة بالنسبة للفرد فقط؟
وبهذه المناسبة، يأتي الحديث عن التأريخ، فما هو رأي القرآن بالنسبة إلى التاريخ؟ وما هي القوى المحركة للتأريخ؟ وإلى أي حد يؤثر الفرد في إيجاد التاريخ؟
وهناك مواضيع كثيرة جدا وردت في القرآن، نشير إلى بعض منها بإيجاز؟ من ضمن هذه المواضيع، نظرة القرآن حول نفسه. ثم موضوع النبي في القرآن، وأن القرآن كيف يعرف النبي وكيف يتحدث معه و....
الموضوع الآخر هو وصف المؤمنين في القرآن وصفات المؤمنين وغير ذلك.
وبالطبع، فإن لكل هذه البحوث الكلية شعب وفروع (مختلفة)، فمثلا عندما نبحث حول الإنسان، لا بد أن نبحث عن أخلاقه أيضا، وعندما نبحث عن المجتمع، فيلزمنا التحدث عن روابط الأفراد فيه، وموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وموضوع الفوارق الاجتماعية.
عندما نبحث عما يشتمل عليه القرآن، من الأحسن أن نرى رأي القرآن عن نفسه وكيف يعرف نفسه؟ إن أول نقطة يصرح بها القرآن - لدى التعريف عنه نفسه - أن هذه الكلمات والجمل هي كلام الله. ويصرح القرآن أنه ليس من تعبير وإنشاء النبي، بل، إن النبي يبين - بإذن من الله - ما يلقى عليه بواسطة روح القدس جبرائيل. والتوضيح الآخر الذي يعرضه القرآن في تعريف نفسه، هو توضيح رسالته التي هي عبارة عن هداية أبناء البشر، وإرشادهم للخروج من الظلمات إلى النور، ((..كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.. )) (إبراهيم/1). ولا شك أن الجهل والمجهولات من مصاديق هذه الظلمات، وأن القرآن يخرج البشر من هذه الظلمات، ويدخلهم إلى أنوار العلم.
ولكن إذا كانت هذه الظلمات تنحصر في المجهولات، فكان الفلاسفة أيضا يتمكنون من إجراء هذه المهمة، إلا أن هناك ظلمات أخرى أخطر كثيرا من ظلمات الجهل، ولا يتمكن العلم من مقاومتها. ومن هذه الظلمات: حب المصلحة (الشخصية)، وحب الذات وهو النفس، و... التي تعتبر ظلمات فردية وخلقية. وتوجد ظلمات اجتماعية مثل الظلم والتفرقة وغيرهما.
إن لفظة "الظلم" مأخوذة من مادة "الظلمة" وتبين نوعا من الظلمة وتبين نوعا من الظلمة المعنوية والاجتماعية، وإن القرآن وسائر الكتب السماوية تتعهد بالنضال من أجل رفع الظلمات، يقول القرآن مخاطبا موسى بن عمران (ع) ((..أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ..)) (إبراهيم/5). هذه الظلمة هي ظلمة ظلم فرعون والفراعنة، والنور هو نور الحرية والعدالة، وإن النقطة التي لاحظها المفسرون هي أن القرآن يذكر الظلمات دائما بصيغة الجمع، ومع الألف واللام لكي تفيد الاستغراق، وتشمل جميع أنواع الظلمات، في الوقت الذي يذكر النور بصيغة الإفراد ويعني إن الصراط المستقيم طريق واحد لا غير، إلا أن طرق الضلال والانحراف متعددة نقرأ في آية الكرسي مثلا: ((الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار م فيها خالدون)).
وبهذا الترتيب يبين القرآن هدفه وهو: تحطيم قيود الجهل والضلال والظلم، والفساد الخلقي والاجتماعي، وفي كلمة واحدة: القضاء على الظلمات، والهداية نحو العدل والخير والنور.
07:59

هل يمكن معرفة القرآن


هل يمكن معرفة القرآن

إن أول سؤال يطرح نفسه لدى التحقيق في موضوعات القرآن، هو هل يمكن - أصلا - معرفة القرآن؟ وهل هناك إمكانية التحقيق في القرآن؟ وهل يمكن التفكر والتدبر في مواضيع ومسائل القرآن؟ أم أن هذا الكتاب لم يعرض أساسا للمعرفة؟ بل فقط للتلاوة والقراءة والتبرك والتيمن وأخذ الثواب؟
يمكن أن يخطر إلى البال أن هذا السؤال ليس له وجه، لأنه لا يشك أحد أن القرآن كتاب للمعرفة، ولكن لظهور قضايا خاطئة في مسألة معرفة القرآن بعلل مختلفة في العالم الإسلامي، وكان لها تأثير فعال في انحطاط وتدهور المسلمين ولا زالت - مع الأسف - جذور تلك الأفكار المنحطة الخطرة موجودة في مجتمعاتنا، لذلك يلزمنا أن نوضح قليلا هذا الموضوع:
ظهر بين علماء الشيعة قبل ثلاثة أو أربعة قرون، أشخاص يعتقدون بعدم حجية القرآن. ولم يعترفوا في ثلاثة من المنابع الأربعة للفقه، والتي ارتضى بها علماء المسلمين، بمثابة معايير لمعرفة المسائل الإسلامية، وهي القرآن والسنة والعقل والإجماع. كانوا يدعون إن الإجماع من بنات علماء المذاهب الأخرى ولا يمكن اتباعه، والعقل لا يجوز الاعتماد عليه لكثرة أخطائه، وأما بالنسبة للقرآن فكانوا يعتقدون بأنه اكبر من أن نستطيع نحن البشر أن نطالعه ونتأمل فيه ولا يحق إلا للنبي والأئمة من التعمق في آيات القرآن ونحن لا يحق لنا غير تلاوة الآيات، وهؤلاء هم الأخباريون.
الأخباريون لا يجوّزون إلاّ مراجعة الأخبار والأحاديث. ربما تعجبتم إذا علمتم أن بعض التفاسير التي كتبت من قبل هؤلاء، إذا رأوا حديثا في ذيل آية ذكروها، وإن لم يجدوا حديثا امتنعوا حتى من ذكر الآية، وكأن تلك الآية ليست في القرآن. هذا العمل كان نوعا من الظلم والعدوان تجاه القرآن. وطبيعي أن مجتمعا يطرد بهذا الشكل كتابه السماوي - وأي كتاب كالقرآن -، ويسلمه بيد النسيان، لا يمكن أن يتحرك أبدا في مسير القرآن.
وكان هناك فرق أخرى غير الأخباريين يمتنعون من وضع القرآن في متناول أيدي العامة (من الناس)، نستطيع أن نذكر من هذه الفرق: الأشاعرة الذين كانا يعتقدون بأن معرفة القرآن لا تعني التدبر في آيات القرآن، بل معناها فهم المعاني اللفظية للآيات، أي أن ما عرفناه من ظاهر الآيات نقبلها ولا يهمنا من واقعها شيئا. وطبيعي أن هذا الأسلوب من المعاملة مع القرآن، سريعا ما يدعو إلى الضلال والانحراف، لأنه لا مفر من توضيح معاني الآيات، ولكن لأنهم عطلوا العقل، فلا بد أن يحصلوا على نتائج ساذجة من القرآن. وبدليل هذا النوع من التفكير، انحرفوا عن طريق الإدراك الصحيح، واعتقدوا اعتقادات باطلة، من قبيل التجسم <التجسيم؟؟>، أي أن الله جسم، مئات من العقائد الانحرافية الأخرى مثل قولهم بإمكانية رؤية الله بالعين والتحدث مع الله بواسطة اللسان العضوي و....
وفي مقابل الفرق التي تركت القرآن من الأساس، ظهرت فرقة أخرى جعلوا القرآن وسيلة للوصول إلى أغراضهم وأهدافهم الشخصية. وكلما كانت تقتضي مصالحهم قاموا بتأويل القرآن ونسبوا إليه أمورا لا ترتبط أساسا بروح القرآن، وعند مواجهتهم أي اعتراض كانوا يجيبون أنهم دون غيرهم يعرفون بواطن الآيات، وأن المعاني المستخرجة حصلوا عليها من معرفة بواطن الآيات. وأن أبطال هذه الحركة في تاريخ الإسلام فرقتان: أولاها الإسماعيلية ويقال لهم الباطنية وثانيتها المتصوفة. الإسماعيلية يسكنون الهند ويسكن بعضهم في إيران. وقد نجحوا في استلام الحكم، وهي الحكومة الفاطمية في مصر.
يعرف الإسماعيليون بأنهم من الشيعة، ويعتقدون بستة من الأئمة، ولكن، أجمع علماء الشيعة الأثنا عشرية، أن هؤلاء بعيدون عن التشيع كل البعد، حتى أهل السنة الذين لا يعتقدون بأئمة الشيعة كما تعتقد الشيعة، اقرب إلى التشيع من هؤلاء الشيعة المعتقدين بستة من الأئمة (اشترك جماعة - بالنيابة عن الإسماعيلين - في مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية الذي تأسس قبل 35 سنة تقريبا، واجتمعت فيه جميع الفرق الإسلامية، وهناك اتفق علماْ <علماء؟؟> الشيعة والسنة، ان الإسماعيليين ليسوا من الفرق الإسلامية، ولم يسمحوا لهم بالاشتراك في ذلك المجمع )أرتكب الاسماعيليون بواسطة اعتقادهم بالباطنية خيانات كثيرة ي <في؟؟> تاريخ الإسلام، وكان لهم دور كبير في إيجاد الانحراف في الأمور الإسلامية.
وإذا انصرفنا عن الإسماعيلية، فهناك المتصوفة الذين لهم دور كبير في مسألة تحريف الآيات، وتأويلها طبقا لعقائدهم الشخصية، أذكر هنا مثالا واحدا لتفاسيرهم، حتى تتضح طريقتهم في التحريف، وليقرأ القارئ حديثا مفصلا من هذا المجمل.
عندما ورد ذكر إبراهيم (ع) وابنه اسماعيل (ع) في القرآن، يحكي القرآن أن إبراهيم كان يؤمر في المنام - عدة مرات - بذبح ابنه في سبيل الله. يتعجب إبراهيم في البداية من هذا الأمر، ولكن بعد تكرر الرؤيا يتيقن ويسلم أمره إلى الله، ثم يخبر ابنه عن هذا الموضوع، ويقبل ابنه بكل إخلاص ويستسلم لحكم الله، قال تعالى.. ((.. يابني إني اري في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت أفعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين)) (سورة الصافات، الآية 102)، والغرض هو إظهار التسليم والرضى بقضاء الله، ولذلك فعندما يستعد الأب والابن بكل إخلاص لتنفيذ أمر الله تبارك وتعالى، يتوقف تنفيذ الحكم بإذن الله.
وفي تفسير هذه الحادثة يقول المتصوفة: إن المقصود من إبراهيم هو العقل، والمقصود من إسماعيل هو النفس، والعقل - هنا - كان يريد أن يذبح النفس!
وواضح أن هذا النوع من التفسير لا يكون <إلا؟؟> لعبا بالقرآن وإظهار نوع من المعرفة الانحرافية. وبالنسبة لهذه التفاسير المنحرفة والمبتنية على الأميال والأهواء النفسية والحزبية، يقول الرسول الأعظم (ص): "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده في النار". وهذا النوع من التفسير (المتقدم) يعتبر اتخاذ القرآن لعبا، وأنه خيانة كبرى ( لقد كثرت في عصرنا الحاضر - وللأسف - التفاسير الانحرافية والإلتقاطية، وقد أخذت الأفكار الإلحادية صبغة إسلامية أحيانا. وقد بدأ أستاذنا الشهيد حركة واسعة النطاق لمواجهة مثل هذه الحركات الانحرافية، وناضل بفكره ويراعه ما استطاع، حتى أنه استشهد في هذا السبيل ) اتخذ القرآن أسلوبا وسطا في مقابل الجمود والتفكر الجاف للأخباريين ونظرائهم، وكذلك في مقابل الانحرافات والتفاسير الخاطئة للباطنية وغيرهم، وهذا الأسلوب (الوسط) عبارة عن التأمل والتدبر المنصف والبعيد عن الأغراض والأهواء.
القرآن يدعو المؤمنين، بل وحتى المخالفين بالتفكير في آياته، ويدعوهم بأن يتأملوا في آياته بدلا عن صدها وإنكارها. يقول في خطاب مع المخالفين: ((أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) (محمد - 24). يقول في آية أخرى: ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) (ص - 29). أنه كتاب مبارك مثمر أرسلناه إليك، لماذا؟ لم نرسله ليقبلوه ويضعوه فوق الرفوف، بل أرسلناه ليفكروا ويتدبروا في آياته.
هذه الآيات وعشرات الآيات الأخرى التي تؤكد على تدبر القرآن، تجوز وتؤيد تفسير القرآن ‎، ولكن ليس تفسيرا على الهوى والميل النفسي، بل على أساس الصدق والإنصاف، بعيدا عن الأغراض الشخصية. عندما تتأمل في القرآن بإنصاف وبدون غرض ‎، فلا ضرورة لنا في إمكانية معرفة كل مسائلة.
القرآن من هذه الجهة يشبه الطبيعة. فكم من أسرار في الطبيعة لم تنكشف بعد، وليس هناك أمل في اكتشافها، في الأوضاع الحالية، ولكنها سوف تكشف في المستقبل. وإضافة على ذلك، بالنسبة إلى معرفة طبيعة الإنسان، لا بد من مطابقة التفكر مع الطبيعة كيفما كانت. القرآن أيضا كتاب مثل الطبيعة لم ينزل لزمن واحد، وإذا كان غير ذلك فقد كانوا يكتشفون غوامضها جميعا في الماضي، وكان هذا الكتاب السماوي يفقد جاذبيته وطراوته وتأثيره.
إن الاستعداد للتدبر والتفكر، وكشف غوامض القرآن، موجود دائما، وهذه نقطة وضحها النبي والأئمة عليهم السلام، في حديث منقول عن الرسول (ص) يقول فيه (ما معناه): مثل القرآن مثل الشمس والقمر، يتحرك مثلهما باستمرار، أي أنه ليس ثابتا ولا يبقى في مكان واحد، وقال (ص) أيضا: "القرآن ظاهرة أنيق وباطنه عميق" (هذه الجملة جاءت ضمن حديث طويل للرسول الأعظم (ص) في فضل القرآن - الكافي ج4 - ص 399)
في عيون أخبار الرضا، نقل من قول الإمام الرضا (ع)، أنه سئل الإمام الصادق (ع): ما هو السر في بقاء القرآن على طراوته كلما يتلى أكثر، وكلما يمضي عليه الزمان زمنا أطول؟ فأجاب الإمام: "لأن القرآن لم ينزل لزمان دون زمان ولناس دون ناس". لقد أوجده الله ليسبق الأفكار والأزمنة في أي زمان، مع وجود الاختلافات الكثيرة في المعلومات وأنواع التفكر ومدى أتساع الفكر، مع أنه يحوى مجهولات لقرائه في كل زمان، ولكنه يعرض مقدارا كبيرا من المعاني والمفاهيم، القابلة لإدراك، بحيث يشبع حاجة الزمان.
07:58

شروط التعرف على القرآن


تحتاج معرفة القرآن إلى مقدمات وشروط نذكرها بإيجاز:
أحد الشروط الضرورية لمعرفة القرآن: معرفة اللغة العربية. وكما لا يمكن معرفة (أشعار) حافظ وسعدي، دون الإلمام الفارسية، فإن معرفة القرآن المكتوب باللغة العربية دون معرفة اللغة العربية أمر محال.
الشرط الآخر: هو الإلمام بتاريخ الإسلام، لأن القرآن ليس مثل التوراة أو الإنجيل، إذا عرض كل منهما (وبلغ إلى الناس) مرة واحدة من قبل الرسول (موسى وعيسى)، بل، أن هذا الكتاب نزل طوال 23 سنة من حياة الرسول الأعظم، من البعثة حتى الوفاة، وخلال الأوضاع المختلفة لتأريخ الإسلام المملوءة حركة وثورة، ولهذا نلاحظ هناك أسباب لنزول آيات القرآن، وسبب النزول لا يحدد معنى الآية، بل، وبالعكس فإن معرفة سبب النزول، يرشد ويؤثر كثيرا في توضيح مضمون الآيات.
الشرط الثالث: هو الإلمام بكلمات وأقوال الرسول الأعظم (ص)، فالرسول بنص القرآن، أول مفسر لهذا الكتاب، حيث جاء في القرآن:
((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (النحل - 44).
((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)) (الجمعة - 2).
الرسول الأكرم (ص) - من نظر القرآن - بنفسه مبين ومفسر لهذا الكتاب، وما جاءنا من الرسول يعيننا على تفسير القرآن.
أما بالنسبة إلينا - نحن الشيعة - الذي نعتقد بالرسول والأئمة الأطهار(ع) ونعتقد أن ما كان للرسول من قبل الله، فقد نقله إلى أوصيائه المكرمين، فإن الأحاديث المعتبرة التي وصلتنا من الأئمة، لها نفس اعتبار الأحاديث المعتبرة، الواصلة من رسول الله، فإن الروايات الموثقة من الأئمة، تساعدنا كثيرا في معرفة القرآن.
هناك نقطة لا بد أن نهتم بها في التحقيق حول القرآن، وهي أن نتعرف على القرآن بالاستعانة بالقرآن نفسه. وهي أن نتعرف القرآن بالإستعانة بالقرآن نفسه. والغرض من ذلك أن مجموعة آيات القرآن تكون مع بعضها بناء متراصا، أي أننا إذا أخذنا آية واحدة من آيات القرآن، وقلنا أننا نريد فهم هذه الآية فقط، يعتبر هذا أسلوب خاطئ، وبالطبع يحتمل أن يكون فهمنا لتلك الآية فهما صحيحا، ولكن هذا عمل مخالف للاحتياط، فآيات القرآن تفسر بعضها بعضا، وكما قال بعض المفسرين الكبار، فإن الأئمة الأطهار أيدوا هذا الأسلوب من التفسير.
القرآن له أسلوب خاص بنفسه في توضيح وبيان المسائل، ففي موارد كثيرة إذا أخذت آية واحدة من القرآن، دون عرضها على الآيات المشابهة، فإنها تأخذ مفهوما يختلف كليا عن مفهوم نفس الآية، إذا وضعت بجانب الآيات التي تشابهها في المضمون.
لعرض نموذج من هذا الأسلوب الخاص للقرآن، نستطيع ذكر الآيات المحكمة والآيات المتشابهة. هناك تصور ساذج بالنسبة للمحكمات والمتشابهات، فيعتقد البعض بأن الآيات المحكمة هي التي عرضت فيها المواضيع بصورة عادية وصريحة، والآيات المتشابهة بعكس ذلك، فإن الموضوعات فيها على صورة ألغاز ورموز. وبمقتضى هذا التعريف، يحق للناس أن يتدبروا في الآيات المحكمة والصريحة فقط، وأما الآيات المتشابهة فلا يمكن معرفتها، ويمنع التفكر فيها.
وهنا بالطبع، يطرح هذا السؤال نفسه: ما هي أذن فلسفة الآيات المتشابهة؟ لماذا يعرض القرآن آيات غير قابلة للمعرفة؟ الجواب بالإيجاز هو أن الآيات المحكمة ليس معناها الآيات الصريحة والواضحة، وليست الألغاز والرموز معاني للمتشابهات. اللغز لفظ مبهم، لا يفهم معناه مباشرة، والآن لننظر هل توجد في القرآن آيات مبهمة؟ هذا القول ينافي نص القرآن الذي يقول بأن القرآن كتاب مبين في آياته، وأن آياته واضحة مفهومة، وجاءت لتكون نورا وهدى للناس. إلا أن سر الموضوع، يكمن في بعض المواضيع المعروضة في القرآن خاصة، عندما يأتي الكلام عن ما وراء الطبيعة والأمور الغيبية فإنها غير قابلة للبيان والتوضيح أساسا مع الألفاظ.
ولكن بما أن لغة القرآن هي اللغة المتداولة بين البشر، فإن هذه المواضيع المعنوية اللطيفة، وردت بنفس العبارات والألفاظ، التي يستخدمها البشر في الموضوعات المادية. ولكن لتجنب سوء الفهم، فإن المسائل الواردة في بعض الآيات لا بد أن تسر <تفسر؟؟> بمعونة الآيات الأخرى، ولا يوجد سبيل آخر غير هذا السبيل.
فمثلا يريد القرآن أن يذكر حقيقة إدعاء رؤية الله بالقلب (أي الإنسان يستطيع أن يرى الله بقلبه)، ورد هذا المعنى في قالب العبارات: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) (القيامة - 22-23). استخدم القرآن لفظة "النظر"، لأنه لا توجد كلمة أنسب من هذه الكلمة، لأداء الغرض والمقصود، ولتجنب الاشتباه يوضح في مكان آخر: ((لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير)) (الأنعام - 103). يلاحظ القارئ أنه بالرغم من التشابه اللفظي، لا يوجد تشابه بين هذه الأمور، ويختلف كل عن الآخر اختلافا كاملا. والقرآن - لتجنب الخطأ بين المعاني العالية والمعاني المادية - يأمرنا بإرجاع المتشابهات إلى المحكمات:
((...أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ...)) (آل عمران - 7)
بعض الآيات محكمة، أي أن لها ذلك الاستحكام، الذي لا يمكن فصلها عن معانيها، واتخاذ معان أخرى لها. هذه الآيات هي أم الكتاب، أي أنها الآيات الأم. فكما أن الطفل يرجع إلى أمه، وأمه تكون مرجعا له، وأن المدن الكبيرة (أم القرى)، تكون مرجعا للمدن الأصغر، فالآيات المحكمة أيضا تحسب مرجعا للآيات المتشابهة. الآيات المتشابهة للتدبر والتفكر ولكن لابد من الاستعانة بالآيات المحكمة لكي نتدبر فيها. وبدون الاستعانة بالآيات الأم، فإن ما يستنتج من الآيات المتشابهة غير صحيح وليس له اعتباره.
07:57

أصالة ثلاثيات المعرفة في القرآن


أصالة ثلاثيات المعرفة في القرآن

بمطالعة القرآن نعرف أصالة المعرفة بأقسامها الثلاثة في القرآن.
الأصالة الأولى هي أصالة الانتساب، أي أنه بدون أي شك وبدون الحاجة إلى البحث والتفتيش حول النسخ القديمة، فإننا نعرف بوضوح: أن ما يتلى هذا اليوم باسم القرآن الكريم، فهو نفس الكتاب الذي أتى به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من عند الله وعرضه على العالم.
الأصالة الثانية، أصالة المواضيع؛ أي أنّ معلومات ومعارف القرآن إبداعية مبتكرة، وليست إلتقاطية ولا مقتبسة. والتحقيق حول هذا الأمر من واجبات المعرفة التحليلية.
الأصالة الثالثة، هي أصالة القرآن الإلهية، أي أن هذه المعلومات ألقيت على الرسول الأعظم من أفق أعلى من أفق أفكار الرسول، وإنما كان الرسول متلقيا من الوحي وحاملا لهذه الرسالة. وهذه النتيجة نحصل عليها من المعرفة الجذرية للقرآن. وهذه المعرفة الجذرية - وبعبارة أخرى تعيين أصالة العلوم القرآنية - مبتنية على المعرفة من القسم الثاني.
ولذلك، فإننا نبدأ البحث من المعرفة التحليلية، أي نحقق في هذا الأمر: ما هي محتويات القرآن؟ وما هي المواضيع المعروضة في القرآن؟ وفي أي المواضيع أظهر القرآن اهتمامنا أكثر؟ وكيف عرضت تلك المواضيع؟
إذا استطعنا - في المعرفة التحليلية - أن نؤدي حق الموضوع، وإذا فهمناه فهما جيدا، وعرفنا معارف القرآن معرفة كافية، عندئذ- وكما قلنا - نصل إلى هذه الأصالة التي هي أساس أصالات القرآن، وهي الأصالة الإلهية، أي كون القرآن معجزة.
07:55

أقسام معرفة القرآن (1)


أقسام معرفة القرآن (1)

الآن، و بعد أن علمنا ضرورة معرفة القرآن، لا بد أن نرى ما هي طريقة معرفة هذا الكتاب؟
لمطالعة وفهم أي كتاب بصورة عامة، هناك ثلاثة أقسام للمعرفة لا بد منها:
أولا: المعرفة الإسنادية أو الانتسابية
في هذه المرحلة، نريد أن نعرف مدى ضرورة انتساب الكتاب إلى كاتبه، لنفرض مثلا: أننا نريد أن نعرف ديوان"حافظ" أو "خيام"، في المقدمة لا بد من معرفة آن ما اشتهر من ديوان حافظ، له كله أم أن بعض الكتاب له والباقي ينسب إليه، وهكذا بالنسبة إلى خيام أو غيرهما. هنا لابد من الاستعانة بنسخ الكتاب أقدمها وأكثرها اعتبارا. ونلاحظ أن جميع الكتب لا تستغني عن هذا النوع من المعرفة. ديوان "حافظ" الذي طبعه المرحوم القزويني واستفاد فيه من أكثر النسخ اعتبارا، يختلف اختلافا كبيرا مع النسخة الموجودة في كثير من البيوت والمطبوعة في "بمبئي".
وعندما ما تلقي نظرة إلى "رباعيات الخيام"، ربما ترى 200 (رباعية) في منزلة واحدة ومستوى واحد تقريبا، وإذا كان فيها أي اختلاف فإنه كاختلاف أشعار كل شاعر. مع العلم بأننا لو رجعنا تأريخيا إلى الوراء واقتربنا من عصر الخيام، لرأينا أن المنسوب إليه قطعا يقل عن 20 رباعية، والباقي يشك في صحة انتسابة إليه، أو أنه من نظم شعراء آخرين دون ترديد. وعلى هذا فإن أولى مراحل معرفة الكتاب هي أن نرى مدى اعتبار إسناد الكتاب الذي بين يدينا إلى مؤلفة.
وهل يصح إسناد كل الكتاب أم بعضه إليه؟ وفي هذه الحالة كم في المائة من الكتاب نستطيع تأييد إسناده إلى المؤلف؟ وعلاوة على ذلك، بأي دليل نستطيع أن ننفي بعضا ونؤيد بعضا ونشك في البعض الآخر؟
القرآن مستغن عن هذا النوع من المعرفة، ولهذا فإنه يعتبر الكتاب الوحيد (الذي يصح إسناده) منذ القدم، ولا يمكننا الحصول على أي كتاب قديم قد مضى عليه قرونا من الزمان وبقي إلى هذا الحد صحيحا معتبرا دون شبهة. وأما الموضوعات التي تطرح أحيانا، ومن قبيل المناقشة في بعض السور أو بعض الآيات، فإنها موضوعات خاطئة ولا داعي لعرضها في الدراسات القرآنية، القرآن تقدم على علم معرفة النسخ، ولا يوجد أدنى ترديد في أن الذي جاء بهذه الآيات من الله عز وجل، هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.
جاء بها عنوانا للإعجاز، لأنها كلام الله، ولا يقدر أحد أن يدعي أو يحتمل وجود نسخة أخرى غير هذا القرآن، ولا يوجد في العالم مستشرق واحد، يبدأ - في بحثه عن القرآن - بالتحقيق حول نسخ القرآن القديمة، (فلا توجد هناك نسخ متعددة من القرآن)، وبالرغم من أن هذه الحاجة ( حاجة ملاحظة النسخ القديمة) موجودة لدى التحقيق في التوراة والإنجيل والشاهنامه (للفردوسي) وديوان سعدي وأي كتاب آخر، فإن القرآن لا يقال بحقه مثل ذلك.
والسر في هذا الأمر - كما تقدم - هو تقدم القرآن على علم معرفة النسخ. والقرآن علاوة على أنه كتاب سماوي مقدس وأتباعه ينظرون إليه بهذه العين، فإنه أصدق دليل على صدق ادعاء الرسول ويعتبر أكبر معجزاته.
وإضافة إلى ذلك، فإن القرآن ليس مثل التوراة التي نزلت مرة واحدة، حتى يصح هذا الإشكال: ما هي النسخة الأصلية؟ بل، وإن آيات القرآن نزلت بالتدرج وطوال ثلاثة وعشرين سنة، ومن اليوم الأول لنزول القرآن، تنافس المسلمون على تعلمه وحفظه وفهمه، كما يتهالك الظمآن على شرب الماء، وخصوصا فإن المجتمع الإسلامي وقتئذ كان مجتمعا بسيطا، ولم يكن هناك كتاب لا بد للمسلمين من حفظه وفهمه إلى جنب القرآن.
خلو الذهن، فراغ الفكر، قوة الذاكرة وعدم الإلمام بالقراءة والكتابة كلها كانت الدافع إلى أن تركز المعلومات السمعية والبصرية - لدى الإنسان المسلم وفي ذاكرته تركيزا قويا، ولأجل ذلك، فإن موافقة بيان القرآن مع عواطفهم وأحاسيسهم، أدى إلى تركيزه في قلوبهم كما يرتكز الرسم المحفور في الصخر.
كانوا يقدسونه باعتباره كلام الله لا كلام البشر، ولا يسمحون لأنفسهم أن يغيروا كلمة واحدة، بل حرفا واحدا فيه أو أن يقدموا أو يؤخروا حرفا، وكان كل همهم أن يقتربوا من الله بتلاوة هذه الآيات (تلاوة صحيحة).
علاوة على كل هذا، فإن ذكر هذه النقطة ضرورية، وهي أن الرسول الأكرم (ص) منذ الأيام الأولى، انتخب عددا من خواص الكتاب، ويعرفون باسم "كتاب الوحي"، وتحسب هذه ميزة للقرآن، إذ أن الكتب القديمة لم تكن كذلك، كتابة كلام الله منذ البداية تعتبر عاملا قطعيا لحفظ القرآن وصونه من التحريف.
وهناك سبب آخر لحسن تقبل القرآن لدى الناس، وهو الناحية الأدبية والفنية للقرآن، والتي يعبر عنها بالفصاحة والبلاغة، الجاذبية الأدبية الشديدة للقرآن، كانت تدعو الناس بالتوجه إليه، والاستفادة منه بسرعة، وذلك خلافا للكتب الأدبية الأخرى، التي يتصرف فيها رواد الأدب كيفما يشاؤون، ليكملوها حسبت تصورهم. وأما القرآن، فلا يجيز أحد لنفسه التصرف فيه، لأن هذه الآية: ((وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)) (الحاقة، الآية 44-46) وآيات أخرى توضح مدى عقوبة الكذب على الله، وعندما تتمركز هذه الآيات في مخيلته ينصرف عن هذا الأمر.
وبهذا الترتيب، قبل أن يرى التحريف له طريقا إلى هذا الكتاب السماوي، تواترت آياته ووصلت إلى مرحلة لا يمكن إنكار أو تحريف حرف واحد منه. ولذا، لا يلزمنا البحث في هذه الناحية من القرآن، كما أن كل عارف للقرآن في العالم لا يرى لنفسه ضرورة البحث في هذا المجال.
هنا لا بد أن نتذكر نقطة واحدة، وهي أنه بسبب سعة نطاق الحكومة الإسلامية، واهتمام الناس الشديد بالقرآن، وبواسطة بعد عامة المسلمين عن المدينة (المنورة) التي كانت مركز الصحابة وحفاظ القرآن، فإن احتمال خطر بروز تغييرات متعمدة أو غير مقصودة في نسخ القرآن كان أمرا واردا، خاصة بالنسبة إلى المناطق النائية على الأقل.
إلا أن فطانة ودقة مراقبة المسلمين منعتا حدوث هذا الأمر. فالمسلمون منذ أواسط القرن الأول للهجرة احتملوا هذا الخطر، ولذلك استفادوا من وجود الصحابة وحفاظ القرآن، ولتجنب أي خطأ أو اشتباه، عمدا كان أو سهوا في المناطق البعيدة، فإنهم استنسخوا نسخا مصدقة (من قبل الصحابة الكبار وحفاظ القرآن) من القرآن، ووزعت هذه النسخ من المدينة إلى الأطراف، ولذلك قطعوا الطريق إلى الأبد من ظهور مثل هذه الاشتباهات أو الإنحرافات، وخصوصا من قبل اليهود الذين يعتبرون أبطالا في فن التحريف.

ثانيا: المعرفة التحليلية
هذه المرحلة تعني بتحقيق تحليلي حول الكتاب، أي توضيح أن هذا الكتاب يشتمل على أية مواضيع، وما هو الهدف الذي وضع له؟ ما رأيه حول الإنسان؟ ما هي نظرته إلى المجتمع؟ وكيفية عرضه للمواضيع وطريقة مقابلته للمسائل المختلفة؟ هل له نظرة فلسفية - أو باصطلاح اليوم - علمية؟ هل ينظر إلى القضايا من زاوية عين رجل عارف أم أن له أسلوبا خاصا به؟ وسؤال آخر أيضا في هذا المجال: هل لهذا الكتاب رسالة ونداء إلى الإنسانية؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فما هي هذه الرسالة؟
إن المجموعة الأولى لهذه الأسئلة ترتبط - في الحقيقة - بنظرة الكتاب إلى العالم والإنسان والحياة والموت و ....، أو بعبارة أكمل، ترتبط بمعرفة الكتاب، وفي اصطلاح فلاسفتنا ترتبط بفلسفة الكتاب النظرية. وأما المجموعة الثانية من الأسئلة فتختص بأطروحة الكتاب بالنسبة لمستقبل الإنسان، كيف يريد أن يبني المجتمع البشري، ومن هو الإنسان النموذجي في نظره؟
وعلى أي حال، فإن هذا النوع من المعرفة يرتبط بمحتوى الكتاب، ونستطيع أن نبحث من هذه الزاوية ي <في؟؟> أي كتاب إن كان كتاب الشفاء لابن سينا أو ديوان "سعدي". من الممكن أن نرى كتابا ليس له نظرة ولا رسالة، أو أن له نظرة بدون رسالة، أو أنه يحتوي على الاثنتين.
وبالنسبة للمعرفة التحليلية للقرآن، لابد أن نرى ما هي المواضيع التي يشتمل عليها القرآن؟ وكيف يعرض القرآن هذه المسائل؟ وما هي استدلالات واحتجاجات القرآن في المستويات المختلفة؟ بما أن القرآن حافظ وحارس للإيمان ورسالته إيمانية، فهل ينظر إلى العقل نظرة ترقب وترصد، ويسعى ليصد هجوم العقل ويكبل يديه ورجليه أم بالعكس ‎، ينظر أليه دائما نظرة مساندة وحماية (ويستعين به) ويستنجد من قوته؟
هذه الأسئلة ومئات الأسئلة المشابهة التي تطرح ضمن المعرفة التحليلية، توضح لنا وتعرفنا ماهية القرآن.
ثالثا: المعرفة الجذرية
في هذه المرحلة، وبعد معرفة صحة استناد وانتساب الكتاب إلى مؤلفه، وبعد تحليل وتحقيق محتويات الكتاب بدقة، يجب أن نحقق فيما إذا كانت مواضيع ومحتويات الكتاب نابعة من أفكار الكاتب أم أن المؤلف استدان واقتبس من أفكار الآخرين. مثلا، بالنسبة لديوان حافظ، بعد أن اجتزنا مرحلتي المعرفة الإسنادية والمعرفة التحليلية، يجب أن نعرف هذا الأمر: هل هذه الأفكار والمواضيع التي أوردها في الكلمات والجمل والأبيات وأخرجها بأسلوبه الخاص، هل هي من إبداعاته أم أن صياغة الكلمات بهذا الفن والجمال من الشاعر وأن الأفكار من آخر أو من آخرين. وبعبارة أخرى بع <بعد؟؟> العلم بالأصالة الفنية لدى حافظ يجب أن نتيقن بالأصالة الفكرية له أيضا.
هذا النوع من المعرفة بالنسبة لحافظ أو أي مؤلف آخر، معرفة تنبع من جذور أفكار المؤلف، وهذا المعرفة فرع للمعرفة التحليلية. أي أن يجب معرفة محتوى أفكار المؤلف بدقة أولا، ثم نبدأ بالمعرفة الجذرية. وخلافات <خلافاً؟؟> لهذا الأمر، فإن النتيجة تشبه مؤلفات بعض كتاب تأريخ العلوم الذين لم يفقهوا شيئا من العلوم، غير أنهم يكتبون في تأريخ العلوم. أو نستطيع أن نمثل أيضا بأولئك الذين يكتبون الكتب الفلسفية ويريدون أن يبحثوا - مثلا - حول أبن سينا وأرسطو، ووجوه التشابه والاختلاف بينهما، ولكنهم لم يعرفوا مع الأسف ابن سينا ولا أرسطو.
هؤلاء مع مقايسة بسيطة، وفور تعلمهم بعض المشابهات اللفظية يجلسون على منصة القضاء، مع أن في المقايسة يجب أن يدرك عمق الأفكار، ولمعرفة عمق أفكار كبار المفكرين أمثال ابن سينا وأرسطو يلزمنا عمرا كاملا من الزمان، وإلا فما نحصل عليه ليس سوى كلمات تخمينية أو تقليدية.
في التحقيق حول القرآن ومعرفته - بعد إجراء المطالعة التحليلية حول القرآن - يأتي دور المقايسة والمعرفة التأريخية، أي أننا يجب أن نقارن القرآن وما يحتويه بالكتب الأخرى الموجودة في ذلك العصر، وخصوصا الكتب الدينية، ويلزمنا في هذه المقارنة ملاحظة جميع الشروط والإمكانات (الخاصة بذلك العصر). مثل مدى علاقة شبة الجزيرة العربية بسائر البلدان، وعدد المتعلمين الذين كانوا يعيشون في مكة وقتئذ و....، ثم نستنتج أن ما في القرآن هل يوجد في الكتب الأخرى أم لا؟ وإن كان يوجد فبأية نسبة؟ وتلك المواضيع التي تشبه بقية الكتب هل هي مستقلة أم مقتبسة؟ وما هو دور هذه المواضيع في تصحيح أخطاء تلك الكتب وتوضيح انحرافاتها؟

نموذج الاتصال

Nom

E-mail *

Message *

Traduction ترجمة